فصل: تفسير الآيات (83- 86):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ}.
قوله: {قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ}: قرأ الأخَوان: {قد أَنْجَيْتُكم} و{واعَدْتُكم} و{رَزَقْتُكم} بتاءِ المتكلم. والباقون: {أَنْجَيْناكم} و{رَزَقْناكم} و{واعَدْناكم} بنونِ العظمة. واتفقوا على {ونَزَّلْنا}. وتقدَّم خلافُ أبي عمرو في {وَعَدْنا} في البقرة. وقرأ حميد {نَجَّيْناكم} بالتشديد.
وقرئ {الأَيْمَنِ} بالجرِّ. قال الزمخشري: خَفْضٌ على الجِوارِ، كقولِهِم: جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ وجعله الشيخ شاذًا ضعيفًا. وخَرَّجه على أنه نعتٌ للطُّور قال: وُصِفَ بذلك لما فيه من اليُمْن، أو لكونِه على يمين مَنْ يستقبلُ الجَبَلَ.
و{جانبَ} مفعولٌ ثانٍ على حَذْفِ مضاف أي: إتيانَ جانبِ. ولا يجوزُ أن يكونَ المفعولُ الثاني محذوفًا. و{جانب} ظرف للوعد. والتقدير: وواعَدْناكم التوراةَ في هذا المكانِ؛ لأنه ظرفُ مكانٍ مختصّ، لا يَصِلُ إليه الفعلُ بنفسِه ولو قيل: إنه تُوُسِّعَ في هذا الظرفِ فجُعِل مفعولًا به أي: جُعل نفسَ الموعود نحو: سِيْر عليه فرسخان وبريدان لجاز.
{كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي}.
قوله: {فَيَحِلُّ}: قرأ العامة {فيحِلُّ} بكسر الحاء، واللام من {يَحْلِلْ}. والكسائيُّ في آخرين بضمِّهما، وابن عتيبة وافق العامَّةَ في الحاء، والكسائيَّ في اللام. فقراءةُ العامَّةِ مِنْ حَلَّ عليه كذا أي: وَجَبَ، مِنْ حَلَّ الدَّيْنُ يَحِلُّ أي: وَجَبَ قضاؤُه. ومنه قولُه: {حتى يَبْلُغَ الهدي مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] ومنه أيضًا {وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} [الزمر: 40]. وقراءةُ الكسائي مِنْ حَلَّ يَحُلُّ أي: نَزَل، ومنه {أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ} [الرعد: 31].
والمشهورُ أنَّ فاعلَ {يَحلُّ} في القراءتين هو {غضبي}. وقال صاحب اللوامح: إنه مفعولٌ به، وإنَّ الفاعلَ تُرِك لشُهْرَته، والتقدير: فيحِلُّ عليكم طُغْيانُكم غضبي، ودَلَّ عليه {ولا تَطْغَوا}. ولا يجوز أن يُسْند إلى {غضبي} فيصيرَ في موضعِ رفعٍ بفعله. ثم قال: وقد يُحْذَفُ المفعولُ للدليلِ عليه، وهو العذابَ ونحوه. قلت: فعنده أنَّ حَلَّ متعدٍّ بنفسِه لأنه من الإِحلال كما صَرَّح هو به. وإذا كان من الإِحْلال تعدى لواحدٍ، وذلك المتعدى إليه: إمَّا {غضبي}، على أنَّ الفاعلَ ضميرٌ عائدٌ على الطغيانِ، كما قَدَّره، وإمَّا محذوفٌ، والفاعل {غضبي}. وفي عبارته قَلَقٌ.
وقرأ طلحة {لا يَحِلَّنَّ عليكم} ب {لا} الناهيةِ وكسرِ الحاء، وفتحِ اللامِ مِنْ يَحِلَّنَّ، ونونِ التوكيد المشددة أي: لا تتعرَّضوا للطُغْيان فيحقَّ عليكم غضبي، وهو من باب لا أُرَيَنَّك ههنا.
وقرأ زيدُ بن علي {ولا تَطْغُوا} بضم الغين مِنْ طغا يَطْغُوا، كغَدا يَغْدو.
وقوله: {فَيَحِلَّ} يجوز أن يكونَ مجزومًا عطفًا على {لا تَطْغَوا} كذا قال أبو البقاء، وفيه نظر؛ إذ المعنى ليس على نَهْيَ الغضبِ أن يَحِلَّ بهم. والثاني: أنَّه منصوبٌ بإضمارِ ِ أَنْ في الجواب. وهو واضحٌ. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ}.
يُذَكِّرُهم آلاءَه، ويعدُّ عليهم نعماءَه، ويأمرهم بالتزام الطاعة والقيام بالشكر لِمَا أسبغ عليهم من فنون النِّعم، ثم يذكرهم ما مَنَّ به على أسلافهم من إنزال المنَّ والسلوى، وضروب المِحَنِ وفنون البلوى.
قوله جلّ ذكره: {كُلُوا مِن طَيِبَّاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلاَ تَطْغَوا فِيهِ} الطيبُ ما كان حلالًا. ويقال الطيب من الرزق ما لا يَعْصِي اللَّهَ مُكْتَسِبهُ. ويقال الطيب من الرزق ما يكون على مشاهدة الرزاق. ويقال الطيب من الرزق ما حَصَل منه الشكرُ. ويقال الطيب من الرزق ما يأخذه العبدُ من اللَّهِ، فما لأهل الجنةِ مُؤَجَّلٌ في عقباهم جهرًا، معجّلٌ لأصفيائه في دنياهم سِرًّا، قال تعالى: {ءَاخِذِينَ مَآ ءَاتَاهُمْ رَبُّهُمْ} [الذاريات: 16].
والأرزاقُ مختلفةٌ؛ فلأقوام حظوظُ النفوس ولآخرين حقوقُ القلوب، ولأقوام شهودُ الأسرار؛ فرزق النفوس التوفيق، ورزق القلوب التصديق، ورزق الأرواح التحقيق.
قوله: {وَلاَ تَطْغَوْا فِيهِ}: بمجاوزة الحلالِ إلى الحرام.
ويقال: {وَلاَ تَطْغَوْا فِيهِ}: بالزيادة على الكفاف وما لابد منه مما زاد على سدِّ الرمق.
ويقال: {وَلاَ تَطْغَوْا فِيهِ}: بالأكل على الغفلة والنسيان.
قوله جلّ ذكره: {فَيَحِلَّ عَلْيْكُمْ غَضَبِى وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِى فَقَدْ هَوَى}.
فيحل عليكم غضبي بالخذلان لمتابعة الزَّلَّة بعد الزَّلَّة.
ويقال فيحل عليكم غضي لِفَقْدِكم التأسُّفَ على ما فاتكم.
ويقال بالرضا بما أنتم فيه من نقصان الحال.
{وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)}.
الغفَّار كثيرُ المغفرة؛ فَمِنْك التوبةُ عن زَلَّةٍ واحدةٍ ومنه المغفرة لذنوب كثيرةٍ، ومنه السِّرِّيةُ التي لا اطلاع لأحدٍ غيره عليها وما للملائكة عليها اطلاع. وهو يغفر لِمَنْ عَمِلَ مثل عَمَلِكَ، وهو يغفر لِمنْ قَلْبُكَ مُرِيدٌ له بالخير والنعمة، وكما قالوا:
إني على جَفَواتها فبِرَبِّها ** وبكل مُتَّصِلٍ بها متوسِّلُ

وأُحِبُّها وأُحِبَّ منزلَها الذي ** نَزَلَتْ به وأُحِبُّ أهلَ المنزلِ

قوله: {وَإنِّى لَغَفَّارٌ لِمَن تَابَ وَءَامَنَ}: فلا تَصِحُّ التوبةُ إلا لمن يكون مؤمنًا.
وقوله هنا: {وَءَامَنَ}: أي آمن في المآلِ كما هو مؤمِنٌ في الحال.
ويقال آمن بأنه ليست نجاته بتوبته وبإيمانه وطاعته، إنما نجاتُه برحمته.
ويقال: {وَإنِّى لَغَفَّارٌ لِمَن تَابَ}: مِنَ الزَّلَّة {وَءَامَنَ}: فلم يَرَ أعماله من نَفْسه، وآمن بأن جميع الحوادثِ من الحقِّ- سبحانه- {وَعَمِلَ صَالِحًا}: فلم يُخِلْ بالفرائض ثم اهتدى للسُّنَّةِ والجماعة.
ويقال: {ثُمَّ}: للتراخي؛ أي آمن في الحال {ثم} اهتدى في المآل.
ويقال مَنْ سَمِعَ منه {وَإِنّىِ} لا يقول بعد ذلك: {إِنِّي}.
ويقال من شَغَلِه سماعُ قوله: {وإِنِّى} اسْتُهْلِكَ في استيلاءِ ما غَلَبَ عليه من ضياء القربة، فإذا جاءت {لَغَفَّارٌ} صار فيه بعين المحو، ولم يتعلق بذنوب أصحابه وأقاربه وكل من يعتني بشأنه.
ويقال: {إني لغفار} كثير المغفرة لمن تاب مرةً؛ فيغفر له أنواعًا من ذنوبه التي لم يَتُبْ منه سِرَّها وجَهْرِها، صغيرها وكبيرِها، وما يتذكر منها وما لا يتذكر. ولا ينبغي أَنْ يقولَ: علمت {عملًا صالحًا}: بل يلاحظُ عَمَلَه بعينِ الاستصغارِ، وحالته بغير الاستقرار. وقوله: {ثُمَّ اهْتَدَى}: أي اهتدى إلينا بنا. اهـ.

.تفسير الآيات (83- 86):

قوله تعالى: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان ذلك- والله أعلم بما كان، وكان أعظم ما مضى في آية الامتنان عليهم والتعرف بالنعم إليهم المواعدة لهدايتهم بالآيات المرئية والمسموعة، وختم ذلك بالإشارة إلى الاجتهاد في الإقبال على الهدى، أتبع ذلك ذكر ضلالهم بعد رؤية ما يبعد معه كل البعد إلمام من رآه بشيء من الضلال، كل ذلك لإظهار القدرة التامة على التصرف في القلوب بضد ما يظن بها، وكان تنجز المواعيد ألذ شيء للقلوب وأشهاه إلى النفوس، وكان السياق مرشدًا حتمًا إلى أن التقدير: فأتوا إلى الطور لميعادنا، وتيمموا جانبه الأيمن بأمرنا ومرادنا، وتعجل موسى صفينا الصعود فيه مبادرًا لما عنده من الشوق إلى ذلك المقام الشريف وتأخر مجيء قومه عن الإتيان معه، فقلنا: ما أخر قومك عن الأتيان معك؟ فعطف عليه قوله: {وما أعجلك} أي أيّ شيء أوجب لك العجلة في المجيء {عن قومك} وإن كنت بادرت مبادرة المبالغ في الاسترضاء، أما علمت أن حدود الملوك لا ينبغي تجاوزها بتقدم أو تأخر؟ {يا موسى} فهلا أتيتم جمله وانتظرتم أمرًا أمرًا جديدًا بخصوص الوقت الذي استحضركم فيه {قال} موسى ظنًا منه أنهم أسرعوا وراءه: {هم} وأتى باسم الإشارة وأسقط منه هاء التنبيه لأنه لا يليق بخطاب الله، قال ابن هبيرة: ولم أر أحدًا من الأصفياء خاطب ربه بذلك، وإنما خاطب به الكفار لغباوتهم {قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعو من دونك} [النحل: 86] في أمثالها وأما آخر الزخرف فقد ذكر التعبير بها في موضعه {أولاء} أي هم في القرب بحيث يسار إليهم، كائنين {على أثري} أي ماشين على آثار مشيي قبل أن ينطمس لم أسبقهم إلا بشيء جرت العادة في السبق بمثله بين الرفاق، هذا بناء منه على ما كان عهد إليهم، وأكد فيه عليهم: ثم اعتذر عن فعله فقال: {وعجلت} أنا بالمبادرة {إليك} وجرى على عادة أهل القرب كما يحق له فقال: {رب} أي أيها المسارع في إصلاح شأني والإصلاح إليّ {لترضى} عني رضًا أعظم مما كان {قال} الرب سبحانه: {فإنا} أي قد تسبب عن عجلتك عنهم أنا {قد فتنا} أي خالطنا بعظمتنا مخالطة مميلة محيلة {قومك} بتعجلك.
ولما كانت الفتنة لم تستغرق جميع الزمن الذي كان بعده، وإنما كانت في بعضه، أدخل الجارّ فقال: {من بعدك} أي خالطناهم بأمر من أمرنا مخالطة أحالتهم عما عهدتهم عليه، وكان ذلك بعد تمام المدة التي ضربتها لهم، وهي الثلاثون بالفعل وبالقوة فقط، من أول ما فارقتهم بضربك لتلك المدة باعتبار أن أول إتيانك هو الذي كان سبب الفتنة لزيادة أيام الغيبة بسببه لأنا زدنا في آخر المدة بمقدار ما عجلت به في أولها، فلما تأخر رجوعك إليهم حصل لهم الفتون بالفعل، فظنوا مرجمات الظنون.
ولما عمتهم الفتنة إلا اثني عشر ألفًا من أكثر من ستمائة ألف، أطلق الضلال على الكل فقال: {وأضلهم السامري} أي عن طريق الرشد بما سبب لهم؟ روى النسائي في التفسير من سننه، وأبو يعلى في مسنده وابن جرير وابن أبي حاتم في تفسيريهما عن ابن عباس- رضي الله عنهما- في حديث الفتون أن موسى عليه السلام لما وعده ربه أن يكلمه استخلف على قومه أخاه هارون عليه السلام، وأجلهم ثلاثين يومًا، وذهب فصامها ليلها ونهارها، ثم كره أن يكلم ربه وريح فمه متغير، فمضغ شيئًا من نبات الأرض فقال له ربه: أوما علمت أن ريح الصائم أطيب من ريح المسك؟ ارجع فصم عشرًا، فلما رأى قوم موسى أنه لم يرجع إليهم ساءهم ذلك، وكان هارون قد خطبهم وقال: إنكم خرجتم من مصر، ولقوم فرعون عندكم عواريّ وودائع، ولكم فيها مثل ذلك، وأنا أرى أن تحسبوا ما لكم عندهم، ولا أحل لكم وديعة استودعتموها ولا عاريّة، ولسنا برادين إليهم شيئًا من ذلك ولا ممسكيه لأنفسنا، فحفر حفيرًا وأمر كل قوم عندهم من ذلك من متاع أو حلية أن يقذفوه في ذلك الحفير، ثم أوقد النار فأحرقه فقال: لا يكون لنا ولا لهم، وكان السامري من قوم يعبدون البقر، جيران لبني إسرائيل ولم يكن من بني إسرائيل، فاحتمل مع موسى وبني إسرائيل حين احتملوا، فقضى له أن رأى أثرًا فقبض منه قبضة فمر بهارون فقال له هارون عليه السلام: يا سامري! ألا تلقي ما في يدك- وهو قابض عليه لا يراه أحد طوال ذلك اليوم، فقال هذه قبضة من أثر الرسول الذي جاوز بكم البحر، ولا ألقيها لشيء إلا أن تدعو الله إذا ألقيتها أن يكون ما أريد، فألقاها ودعا له هارون، فقال: أريد أن يكون عجلًا، فاجتمع ما كان في الحفرة من متاع أو حلية أو نحاس أو حديد، فصار عجلًا أجوف ليس فيه الروح، له خوار، قال ابن عباس- رضي الله عنهما-: لا والله! ما كان له صوت قط، إنما كانت الريح تدخل في دبره فتخرج من فيه، فكان ذلك الصوت من ذلك، فتفرق بنو إسرائيل فرقًا، فقالت فرقة: يا سامري! ما هذا وأنت أعلم به؟ قال: هذا ربكم، ولكن موسى أضل الطريق، فقالت فرقة: لا نكذب بهذا حتى يرجع إلينا موسى.
فإن كان ربنا لم نكن ضيعناه وعجزنا فيه حين رأيناه، وإن لم يكن ربنا فإنّا نتبع موسى، وقالت فرقة: هذا عمل الشيطان، وليس بربنا، ولن نؤمن به ولن نصدق، وأشرب فرقة في قلوبهم الصدق بما قال السامري في العجل وأعلنوا التكذيب به- الحديث.
ثم سبب عن إخباره سبحانه له بذلك قوله: {فرجع موسى} أي لما أخبره ربه بذلك {إلى قومه} أي الذين لهم قوة عظيمة على ما يحاولونه {غضبان أسفًا} أي شديد الحزن أو الغضب؛ واستأنف قوله: {قال} لقومه لما رجع إليهم مستعطفًا لهم: {يا قوم} وأنكر عليهم بقوله: {ألم يعدكم ربكم} الذي طال إحسانه إليكم {وعدًا حسنًا} أي بأنه ينزل عليكم كتابًا حافظًا، ويكفر عنكم خطاياكم، وينصركم على أعدائكم- إلى غير ذلك من إكرامه.
ولما جرت العادة بأن طول الزمان ناقض للعزائم، مغير للعهود، كما قال أبو العلاء أحمد بن سليمان المعري في هذا البيت:
لا أنسينك إن طال الزمان بنا ** وكم حبيب تمادى عهده فنسي

وكان عليه الصلاة والسلام قريب العهد بهم، أنكر طول العهد بقوله، مستأنفًا عما تقديره: هل ترك ربكم مواعيده لكم وقطع معروفه عنكم: {أفطال عليكم العهد} أي زمن لطفه بكم، فتغيرتم عما فارقتكم عليه كما يعتري أهل الرذائل الانحلال في العزائم لضعف العقول وقلة التدبر {أم أردتم} بالنقض مع قرب العهد وذكر الميثاق {أن يحل عليكم} بسبب عبادة العجل {غضب من ربكم} أي المحسن إليكم، وكلا الأمرين لم يكن، أما الأول فواضح، وأما الثاني فلا يظن بأحد إرادته، والحاصل أنه يقول: إنكم فعلتم ما لا يفعله عاقل {فأخلفتم} أي فتسبب عن فعلكم ذلك أن أخلفتم {موعدي} في إجلال الله والإتيان إلى الموضع الذي ضربه لكم لكلامه لي وإنزال كتابه عليّ إحسانًا إليكم وإقبالًا عليكم، وكأنه أضاف الموعد إليه أدبًا مع الله تعالى وإعظامًا له، أو أنه لما كان إخلاف الموعد المؤكد المعين الذي لا شبهة فيه، لما نصب عليه من الدلائل الباهرة، وأوضحه من البراهين الظاهرة، لا يكون إلا بنسيان لطول العهد، أو عناد بسوء قصد، وكان من أبلغ المقاصد وأوضح التقرير إلجاء الخصم بالسؤال إلى الاعتراف بالمراد، سألهم عن تعيين أحد الأمرين مع أن طول العهد لا يمكن ادعاؤه، فقال ما معناه: أطال عليكم العهد بزيادة عشرة أيام فنسيتم فلم يكن عليكم في الإخلاف جناح؟ أم أردتم أن يحل عليكم الغضب فعاندتم؟ فكانت الآية من الاحتباك: ذكر طول العهد الموجب للنسيان أولًا دليل على حذف العناد ثانيًا، وذكر حلول الغضب ثانيًا دليل على انتفاء الجناح أولًا، وسر ذلك أن ذكر السبب الذي هو طول العهد أدل على النسيان الذي هو المسبب، وإثبات الغضب- وهو المسبب- أنكأ من إثبات سببه الذي هو العناد. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83)}.